كتاب: تفسير السعدي المسمى بـ «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان» **

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السعدي المسمى بـ «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان» **


‏[‏94‏]‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا‏}

يأمر تعالى عباده المؤمنين إذا خرجوا جهادًا في سبيله وابتغاء مرضاته أن يتبينوا ويتثبتوا في جميع أمورهم المشتبهة‏.‏ فإن الأمور قسمان‏:‏ واضحة وغير واضحة‏.‏ فالواضحة البيِّنة لا تحتاج إلى تثبت وتبين، لأن ذلك تحصيل حاصل‏.‏ وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الإنسان يحتاج إلى التثبت فيها والتبين، ليعرف هل يقدم عليها أم لا‏؟‏

فإن التثبت في هذه الأمور يحصل فيه من الفوائد الكثيرة، والكف لشرور عظيمة، ما به يعرف دين العبد وعقله ورزانته، بخلاف المستعجل للأمور في بدايتها قبل أن يتبين له حكمها، فإن ذلك يؤدي إلى ما لا ينبغي، كما جرى لهؤلاء الذين عاتبهم الله في الآية لم ـا لم يتثبتوا وقتلوا من سلم عليهم، وكان معه غنيمة له أو مال غيره، ظنًّا أنه يستكفي بذلك قتلَهم، وكان هذا خطأ في نفس الأمر، فلهذا عاتبهم بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ فلا يحملنكم العرض الفاني القليل على ارتكاب ما لا ينبغي فيفوتكم ما عند الله من الثواب الجزيل الباقي، فما عند الله خير وأبقى‏.‏

وفي هذا إشارة إلى أن العبد ينبغي له إذا رأى دواعي نفسه مائلة إلى حالة له فيها هوى وهي مضرة له، أن يُذَكِّرها ما أعد الله لمن نهى نفسه عن هواها، وقدَّم مرضاة الله على رضا نفسه، فإن في ذلك ترغيبًا للنفس في امتثال أمر الله، وإن شق ذلك عليها‏.‏

ثم قال تعالى مذكرًا لهم بحالهم الأولى، قبل هدايتهم إلى الإسلام‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ فكما هداكم بعد ضلالكم فكذلك يهدي غيركم، وكما أن الهداية حصلت لكم شيئًا فشيئًا، فكذلك غيركم‏.‏ فنظر الكامل لحاله الأولى الناقصة، ومعاملته لمن كان على مثلها بمقتضى ما يعرف من حاله الأولى، ودعاؤه له بالحكمة والموعظة الحسنة ـ من أكبر الأسباب لنفعه وانتفاعه، ولهذا أعاد الأمر بالتبين فقال‏:‏ ‏{‏فَتَبَيَّنُوا‏}‏

فإذا كان من خرج للجهاد في سبيل الله، ومجاهدة أعداء الله، وقد استعد بأنواع الاستعداد للإيقاع بهم، مأمورًا بالتبين لمن ألقى إليه السلام، وكانت القرينة قوية في أنه إنما سلم تعوذا من القتل وخوفا على نفسه ـ فإن ذلك يدل على الأمر بالتبين والتثبت في كل الأحوال التي يقع فيها نوع اشتباه، فيتثبت فيها العبد، حتى يتضح له الأمر ويتبين الرشد والصواب‏.‏

{‏إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا‏}‏ فيجازي كُلًّا ما عمله ونواه، بحسب ما علمه من أحوال عباده ونياتهم‏.‏

‏[‏95 ـ 96‏]‏ ‏{‏لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}

أي‏:‏ لا يستوي من جاهد من المؤمنين بنفسه وماله ومن لم يخرج للجهاد ولم يقاتل أعداء الله، ففيه الحث على الخروج للجهاد، والترغيب في ذلك، والترهيب من التكاسل والقعود عنه من غير عذر‏.‏

وأما أهل الضرر كالمريض والأعمى والأعرج والذي لا يجد ما يتجهز به، فإنهم ليسوا بمنزلة القاعدين من غير عذر، فمن كان من أولي الضرر راضيًا بقعوده لا ينوي الخروج في سبيل الله لولا ‏[‏وجود‏]‏ المانع، ولا يُحَدِّث نفسه بذلك، فإنه بمنزلة القاعد لغير عذر‏.‏

ومن كان عازمًا على الخروج في سبيل الله لولا وجود المانع يتمنى ذلك ويُحَدِّث به نفسه، فإنه بمنزلة من خرج للجهاد، لأن النية الجازمة إذا اقترن بها مقدورها من القول أو الفعل ينزل صاحبها منزلة الفاعل‏.‏

ثم صرَّح تعالى بتفضيل المجاهدين على القاعدين بالدرجة، أي‏:‏ الرفعة، وهذا تفضيل على وجه الإجمال، ثم صرح بذلك على وجه التفصيل، ووعدهم بالمغفرة الصادرة من ربهم، والرحمة التي تشتمل على حصول كل خير، واندفاع كل شر‏.‏

والدرجات التي فصلها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالحديث الثابت عنه في ‏"‏الصحيحين‏"‏ أن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله‏.‏

وهذا الثواب الذي رتبه الله على الجهاد، نظير الذي في سورة الصف في قوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏

وتأمل حسن هذا الانتقال من حالة إلى أعلى منها، فإنه نفى التسوية أولا بين المجاهد وغيره، ثم صرَّح بتفضيل المجاهد على القاعد بدرجة، ثم انتقل إلى تفضيله بالمغفرة والرحمة والدرجات‏.‏

وهذا الانتقال من حالة إلى أعلى منها عند التفضيل والمدح، أو النزول من حالة إلى ما دونها، عند القدح والذم ـ أحسن لفظا وأوقع في النفس‏.‏

وكذلك إذا فضَّل تعالى شيئًا على شيء، وكل منهما له فضل، احترز بذكر الفضل الجامع للأمرين لئلا يتوهم أحد ذم المفضل عليه كما قال هنا‏:‏ ‏{‏وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى‏}

وكما ‏[‏قال تعالى‏]‏ في الآيات المذكورة في الصف في قوله‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ وكما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ‏}‏ أي‏:‏ ممن لم يكن كذلك‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى‏}‏ وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا‏}‏ فينبغي لمن بحث في التفضيل بين الأشخاص والطوائف والأعمال أن يتفطن لهذه النكتة‏.‏

وكذلك لو تكلم في ذم الأشخاص والمقالات ذكر ما تجتمع فيه عند تفضيل بعضها على بعض، لئلا يتوهم أن المفضَّل قد حصل له الكمال‏.‏ كما إذا قيل‏:‏ النصارى خير من المجوس فليقل مع ذلك‏:‏ وكل منهما كافر‏.‏

والقتل أشنع من الزنا، وكل منهما معصية كبيرة، حرمها الله ورسوله وزجر عنها‏.‏

ولما وعد المجاهدين بالمغفرة والرحمة الصادرَيْن عن اسميه الكريمين ‏{‏الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏ ختم هذا الآية بهما فقال‏:‏ ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}

‏[‏97 ـ 99‏]‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا‏}

هذا الوعيد الشديد لمن ترك الهجرة مع قدرته عليها حتى مات، فإن الملائكة الذين يقبضون روحه يوبخونه بهذا التوبيخ العظيم، ويقولون لهم‏:‏ ‏{‏فِيمَ كُنْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ على أي حال كنتم‏؟‏ وبأي شيء تميزتم عن المشركين‏؟‏ بل كثرتم سوادهم، وربما ظاهرتموهم على المؤمنين، وفاتكم الخير الكثير، والجهاد مع رسوله، والكون مع المسلمين، ومعاونتهم على أعدائهم‏.‏

{‏قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْض‏}‏ أي‏:‏ ضعفاء مقهورين مظلومين، ليس لنا قدرة على الهجرة‏.‏ وهم غير صادقين في ذلك لأن الله وبخهم وتوعدهم، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، واستثنى المستضعفين حقيقة‏.‏

ولهذا قالت لهم الملائكة‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا‏}‏ وهذا استفهام تقرير، أي‏:‏ قد تقرر عند كل أحد أن أرض الله واسعة، فحيثما كان العبد في محل لا يتمكن فيه من إظهار دينه، فإن له متسعًا وفسحة من الأرض يتمكن فيها من عبادة الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ‏}‏ قال الله عن هؤلاء الذين لا عذر لهم‏:‏ ‏{‏فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا‏}‏ وهذا كما تقدم، فيه ذكر بيان السبب الموجِب، فقد يترتب عليه مقتضاه، مع اجتماع شروطه وانتفاء موانعه، وقد يمنع من ذلك مانع‏.‏

وفي الآية دليل على أن الهجرة من أكبر الواجبات، وتركها من المحرمات، بل من الكبائر، وفي الآية دليل على أن كل مَن توفي فقد استكمل واستوفى ما قدر له من الرزق والأجل والعمل، وذلك مأخوذ من لفظ ‏"‏التوفي‏"‏فإنه يدل على ذلك، لأنه لو بقي عليه شيء من ذلك لم يكن متوفيًا‏.‏

وفيه الإيمان بالملائكة ومدحهم، لأن الله ساق ذلك الخطاب لهم على وجه التقرير والاستحسان منهم، وموافقته لمحله‏.‏

ثم استثنى المستضعفين على الحقيقة، الذين لا قدرة لهم على الهجرة بوجه من الوجوه ‏{‏وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا‏}

فهؤلاء قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا‏}‏ و ‏"‏عسى‏"‏ونحوها واجب وقوعها من الله تعالى بمقتضى كرمه وإحسانه، وفي الترجية بالثواب لمن عمل بعض الأعمال فائدة، وهو أنه قد لا يوفيه حق توفيته، ولا يعمله على الوجه اللائق الذي ينبغي، بل يكون مقصرًا فلا يستحق ذلك الثواب‏.‏ والله أعلم‏.‏

وفي الآية الكريمة دليل على أن من عجز عن المأمور من واجب وغيره فإنه معذور، كما قال تعالى في العاجزين عن الجهاد‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ‏}‏ وقال في عموم الأوامر‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}

وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏:‏ ‏"‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏"‏ولكن لا يعذر الإنسان إلا إذا بذل جهده وانسدت عليه أبواب الحيل لقوله‏:‏ ‏{‏لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً‏}‏ وفي الآية تنبيه على أن الدليل في الحج والعمرة ونحوهما مما يحتاج إلى سفر من شروط الاستطاعة‏.‏

‏[‏100‏]‏ ‏{‏وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كثيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}

هذا في بيان الحث على الهجرة والترغيب، وبيان ما فيها من المصالح، فوعد الصادق في وعده أن من هاجر في سبيله ابتغاء مرضاته، أنه يجد مراغما في الأرض وسعة، فالمراغم مشتمل على مصالح الدين، والسعة على مصالح الدنيا‏.‏

وذلك أن كثيرًا من الناس يتوهم أن في الهجرة شتاتًا بعد الألفة، وفقرًا بعد الغنى، وذلا بعد العز، وشدة بعد الرخاء‏.‏

والأمر ليس كذلك، فإن المؤمن ما دام بين أظهر المشركين فدينه في غاية النقص، لا في العبادات القاصرة عليه كالصلاة ونحوها، ولا في العبادات المتعدية كالجهاد بالقول والفعل، وتوابع ذلك، لعدم تمكنه من ذلك، وهو بصدد أن يفتن عن دينه، خصوصًا إن كان مستضعفًا‏.‏

فإذا هاجر في سبيل الله تمكن من إقامة دين الله وجهاد أعداء الله ومراغمتهم، فإن المراغمة اسم جامع لكل ما يحصل به إغاظة لأعداء الله من قول وفعل، وكذلك ما يحصل له سعة في رزقه، وقد وقع كما أخبر الله تعالى‏.‏

واعتبر ذلك بالصحابة رضي الله عنهم فإنهم لما هاجروا في سبيل الله وتركوا ديارهم وأولادهم وأموالهم لله، كمل بذلك إيمانهم وحصل لهم من الإيمان التام والجهاد العظيم والنصر لدين الله، ما كانوا به أئمة لمن بعدهم، وكذلك حصل لهم مما يترتب على ذلك من الفتوحات والغنائم، ما كانوا به أغنى الناس، وهكذا كل من فعل فعلهم، حصل له ما حصل لهم إلى يوم القيامة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ أي‏:‏ قاصدا ربه ورضاه، ومحبة لرسوله ونصرًا لدين الله، لا لغير ذلك من المقاصد ‏{‏ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ‏}‏ بقتل أو غيره، ‏{‏فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ فقد حصل له أجر المهاجر الذي أدرك مقصوده بضمان الله تعالى، وذلك لأنه نوى وجزم، وحصل منه ابتداء وشروع في العمل، فمن رحمة الله به وبأمثاله أن أعطاهم أجرهم كاملًا ولو لم يكملوا العمل، وغفر لهم ما حصل منهم من التقصير في الهجرة وغيرها‏.‏

ولهذا ختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين فقال‏:‏ ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ يغفر للمؤمنين ما اقترفوه من الخطيئات، خصوصًا التائبين المنيبين إلى ربهم‏.‏

‏{‏رَحِيمًا‏}‏ بجميع الخلق رحمة أوجدتهم وعافتهم ورزقتهم من المال والبنين والقوة، وغير ذلك‏.‏ رحيمًا بالمؤمنين حيث وفقهم للإيمان، وعلمهم من العلم ما يحصل به الإيقان، ويسر لهم أسباب السعادة والفلاح وما به يدركون غاية الأرباح، وسيرون من رحمته وكرمه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فنسأل الله أن لا يحرمنا خيره بشر ما عندنا‏.‏

‏[‏101 ـ 102‏]‏ ‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا *وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا‏}

هاتان الآيتان أصل في رخصة القصر، وصلاة الخوف، يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ‏}‏ أي‏:‏ في السفر، وظاهر الآية ‏[‏أنه‏]‏ يقتضي الترخص في أي سفر كان ولو كان سفر معصية، كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وخالف في ذلك الجمهور، وهم الأئمة الثلاثة وغيرهم، فلم يجوزوا الترخص في سفر المعصية، تخصيصا للآية بالمعنى والمناسبة، فإن الرخصة سهولة من الله لعباده إذا سافروا أن يقصروا ويفطروا، والعاصي بسفره لا يناسب حاله التخفيف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ‏}‏ أي‏:‏ لا حرج ولا إثم عليكم في ذلك، ولا ينافي ذلك كون القصر هو الأفضل، لأن نفي الحرج إزالة لبعض الوهم الواقع في كثير من النفوس، بل ولا ينافي الوجوب كما تقدم ذلك في سورة البقرة في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏

وإزالة الوهم في هذا الموضع ظاهرة، لأن الصلاة قد تقرر عند المسلمين وجوبها على هذه الصفة التامة، ولا يزيل هذا عن نفوس أكثرهم إلا بذكر ما ينافيه‏.‏

ويدل على أفضلية القصر على الإتمام أمران‏:‏

أحدهما‏:‏ ملازمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على القصر في جميع أسفاره‏.‏

والثاني‏:‏ أن هذا من باب التوسعة والترخيص والرحمة بالعباد، والله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ‏}‏ ولم يقل أن تقصروا الصلاة فيه فائدتان‏:‏

إحداهما‏:‏ أنه لو قال أن تقصروا الصلاة لكان القصر غير منضبط بحد من الحدود، فربما ظن أنه لو قصر معظم الصلاة وجعلها ركعة واحدة لأجزأ، فإتيانه بقوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الصَّلَاةِ‏}‏ ليدل ذلك على أن القصر محدود مضبوط، مرجوع فيه إلى ما تقرر من فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه‏.‏

الثانية‏:‏ أن ‏{‏من‏}‏ تفيد التبعيض ليعلم بذلك أن القصر لبعض الصلوات المفروضات لا جميعها، فإن الفجر والمغرب لا يقصران وإنما الذي يقصر الصلاة الرباعية من أربع إلى ركعتين‏.‏

فإذا تقرر أن القصر في السفر رخصة، فاعلم أن المفسرين قد اختلفوا في هذا القيد، وهو قوله‏:‏ ‏{‏إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ الذي يدل ظاهره أن القصر لا يجوز إلا بوجود الأمرين كليهما، السفر مع الخوف‏.‏

ويرجع حاصل اختلافهم إلى أنه هل المراد بقوله‏:‏ ‏{‏أَنْ تَقْصُرُوا‏}‏ قصر العدد فقط‏؟‏ أو قصر العدد والصفة‏؟‏ فالإشكال إنما يكون على الوجه الأول‏.‏

وقد أشكل هذا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى سأل عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال‏:‏ يا رسول الله ما لنا نقصر الصلاة وقد أمِنَّا‏؟‏ أي‏:‏ والله يقول‏:‏ ‏{‏إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏:‏ ‏"‏صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته‏"‏ أو كما قال‏.‏

فعلى هذا يكون هذا القيد أتى به نظرا لغالب الحال التي كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه عليها، فإن غالب أسفاره أسفار جهاد‏.‏

وفيه فائدة أخرى وهي بيان الحكمة والمصلحة في مشروعية رخصة القصر، فبيَّن في هذه الآية أنهى ما يتصور من المشقة المناسبة للرخصة، وهي اجتماع السفر والخوف، ولا يستلزم ذلك أن لا يقصر مع السفر وحده، الذي هو مظنة المشقة‏.‏

وأما على الوجه الثاني، وهو أن المراد بالقصر‏:‏ قصر العدد والصفة فإن القيد على بابه، فإذا وجد السفر والخوف، جاز قصر العدد، وقصر الصفة، وإذا وجد السفر وحده جاز قصر العدد فقط، أو الخوف وحده جاز قصر الصفة‏.‏

ولذلك أتى بصفة صلاة الخوف بعدها بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ‏}‏ أي‏:‏ صليت بهم صلاة تقيمها وتتم ما يجب فيها ويلزم، فعلمهم ما ينبغي لك ولهم فعله‏.‏

ثم فسَّر ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ‏}‏ أي‏:‏ وطائفة قائمة بإزاء العدو كما يدل على ذلك ما يأتي‏:‏ ‏{‏فَإِذَا سَجَدُوا‏}‏ أي‏:‏ الذين معك أي‏:‏ أكملوا صلاتهم وعبر عن الصلاة بالسجود ليدل على فضل السجود، وأنه ركن من أركانها، بل هو أعظم أركانها‏.‏

{‏فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا‏}‏ وهم الطائفة الذين قاموا إزاء العدو ‏{‏فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ‏}‏ ودل ذلك على أن الإمام يبقى بعد انصراف الطائفة الأولى منتظرا للطائفة الثانية، فإذا حضروا صلى بهم ما بقي من صلاته ثم جلس ينتظرهم حتى يكملوا صلاتهم، ثم يسلم بهم وهذا أحد الوجوه في صلاة الخوف‏.‏

فإنها صحت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من وجوه كثيرة كلها جائزة، وهذه الآية تدل على أن صلاة الجماعة فرض عين من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الله تعالى أمر بها في هذه الحالة الشديدة، وقت اشتداد الخوف من الأعداء وحذر مهاجمتهم، فإذا أوجبها في هذه الحالة الشديدة فإيجابها في حالة الطمأنينة والأمن من باب أَوْلَى وأحرى‏.‏

والثاني‏:‏ أن المصلين صلاة الخوف يتركون فيها كثيرًا من الشروط واللوازم، ويعفى فيها عن كثير من الأفعال المبطلة في غيرها، وما ذاك إلا لتأكد وجوب الجماعة، لأنه لا تعارض بين واجب ومستحب، فلولا وجوب الجماعة لم تترك هذه الأمور اللازمة لأجلها‏.‏

وتدل الآية الكريمة على أن الأولى والأفضل أن يصلوا بإمام واحد‏.‏ ولو تضمن ذلك الإخلال بشيء لا يخل به لو صلوها بعدة أئمة، وذلك لأجل اجتماع كلمة المسلمين واتفاقهم وعدم تفرق كلمتهم، وليكون ذلك أوقع هيبة في قلوب أعدائهم، وأمر تعالى بأخذ السلاح والحذر في صلاة الخوف، وهذا وإن كان فيه حركة واشتغال عن بعض أحوال الصلاة فإن فيه مصلحة راجحة وهو الجمع بين الصلاة والجهاد، والحذر من الأعداء الحريصين غاية الحرص على الإيقاع بالمسلمين والميل عليهم وعلى أمتعتهم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً‏}

ثم إن الله عذر من له عذر من مرض أو مطر أن يضع سلاحه، ولكن مع أخذ الحذر فقال‏:‏ ‏{‏وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا‏}

ومن العذاب المهين ما أمر الله به حزبه المؤمنين وأنصار دينه الموحدين من قتلهم وقتالهم حيثما ثقفوهم، ويأخذوهم ويحصروهم، ويقعدوا لهم كل مرصد، ويحذروهم في جميع الأحوال، ولا يغفلوا عنهم، خشية أن ينال الكفار بعض مطلوبهم فيهم‏.‏

فلله أعظم حمد وثناء على ما مَنَّ به على المؤمنين، وأيَّدَهم بمعونته وتعاليمه التي لو سلكوها على وجه الكمال لم تهزم لهم راية، ولم يظهر عليهم عدو في وقت من الأوقات‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ‏}‏ يدل على أن هذه الطائفة تكمل جميع صلاتها قبل ذهابهم إلى موضع الحارسين‏.‏ وأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يثبت منتظرا للطائفة الأخرى قبل السلام، لأنه أولا ذكر أن الطائفة تقوم معه، فأخبر عن مصاحبتهم له‏.‏ ثم أضاف الفعل بعْدُ إليهم دون الرسول، فدل ذلك على ما ذكرناه‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ‏}‏ دليل على أن الطائفة الأولى قد صلوا، وأن جميع صلاة الطائفة الثانية تكون مع الإمام حقيقة في ركعتهم الأولى، وحكما في ركعتهم الأخيرة، فيستلزم ذلك انتظار الإمام إياهم حتى يكملوا صلاتهم، ثم يسلم بهم، وهذا ظاهر للمتأمل‏.‏

‏[‏103‏]‏ ‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا‏}

أي‏:‏ فإذا فرغتم من صلاتكم، صلاة الخوف وغيرها، فاذكروا الله في جميع أحوالكم وهيئاتكم، ولكن خصت صلاة الخوف بذلك لفوائد‏.‏ منها‏:‏ أن القلب صلاحه وفلاحه وسعادته بالإنابة إلى الله تعالى في المحبة وامتلاء القلب من ذكره والثناء عليه‏.‏

وأعظم ما يحصل به هذا المقصود الصلاة، التي حقيقتها أنها صلة بين العبد وبين ربه‏.‏

ومنها‏:‏ أن فيها من حقائق الإيمان ومعارف الإيقان ما أوجب أن يفرضها الله على عباده كل يوم وليلة‏.‏ ومن المعلوم أن صلاة الخوف لا تحصل فيها هذه المقاصد الحميدة بسبب اشتغال القلب والبدن والخوف فأمر بجبرها بالذكر بعدها‏.‏

ومنها‏:‏ أن الخوف يوجب من قلق القلب وخوفه ما هو مظنة لضعفه، وإذا ضعف القلب ضعف البدن عن مقاومة العدو، والذكر لله والإكثار منه من أعظم مقويات القلب‏.‏

ومنها‏:‏ أن الذكر لله تعالى مع الصبر والثبات سبب للفلاح والظفر بالأعداء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كثيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ فأمر بالإكثار منه في هذه الحال إلى غير ذلك من الحِكَم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاة‏}‏ أي‏:‏ إذا أمنتم من الخوف واطمأنت قلوبكم وأبدًانكم فأتموا صلاتكم على الوجه الأكمل ظاهرا وباطنا، بأركانها وشروطها وخشوعها وسائر مكملاتها‏.‏

{‏إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا‏}‏ أي‏:‏ مفروضا في وقته، فدل ذلك على فرضيتها، وأن لها وقتا لا تصح إلا به، وهو هذه الأوقات التي قد تقررت عند المسلمين صغيرهم وكبيرهم، عالمهم وجاهلهم، وأخذوا ذلك عن نبيهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله‏:‏ ‏"‏صلوا كما رأيتموني أصلي‏"‏ ودل قوله‏:‏ ‏{‏عَلَى الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ على أن الصلاة ميزان الإيمان وعلى حسب إيمان العبد تكون صلاته وتتم وتكمل، ويدل ذلك على أن الكفار وإن كانوا ملتزمين لأحكام المسلمين كأهل الذمة ـ أنهم لا يخاطبون بفروع الدين كالصلاة، ولا يؤمرون بها، بل ولا تصح منهم ما داموا على كفرهم، وإن كانوا يعاقبون عليها وعلى سائر الأحكام في الآخرة‏.‏

‏[‏104‏]‏ ‏{‏وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا‏}

أي‏:‏ لا تضعفوا ولا تكسلوا في ابتغاء عدوكم من الكفار، أي‏:‏ في جهادهم والمرابطة على ذلك، فإن وَهَن القلب مستدع لوَهَن البدن، وذلك يضعف عن مقاومة الأعداء‏.‏ بل كونوا أقوياء نشيطين في قتالهم‏.‏

ثم ذكر ما يقوي قلوب المؤمنين، فذكر شيئين‏:‏

الأول‏:‏ أن ما يصيبكم من الألم والتعب والجراح ونحو ذلك فإنه يصيب أعداءكم، فليس من المروءة الإنسانية والشهامة الإسلامية أن تكونوا أضعف منهم، وأنتم وإياهم قد تساويتم فيما يوجب ذلك، لأن العادة الجارية لا يضعف إلا من توالت عليه الآلام وانتصر عليه الأعداء على الدوام، لا من يدال مرة، ويدال عليه أخرى‏.‏

الأمر الثاني‏:‏ أنكم ترجون من الله ما لا يرجون، فترجون الفوز بثوابه والنجاة من عقابه، بل خواص المؤمنين لهم مقاصد عالية وآمال رفيعة من نصر دين الله، وإقامة شرعه، واتساع دائرة الإسلام، وهداية الضالين، وقمع أعداء الدين، فهذه الأمور توجب للمؤمن المصدق زيادة القوة، وتضاعف النشاط والشجاعة التامة؛ لأن من يقاتل ويصبر على نيل عزه الدنيوي إن ناله، ليس كمن يقاتل لنيل السعادة الدنيوية والأخروية، والفوز برضوان الله وجنته، فسبحان من فاوت بين العباد وفرق بينهم بعلمه وحكمته، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا‏}‏ كامل العلم كامل الحكمة

‏[‏105 ـ 113‏]‏ ‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا * وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا‏}‏

يخبر تعالى أنه أنزل على عبده ورسوله الكتاب بالحق، أي‏:‏ محفوظًا في إنزاله من الشياطين، أن يتطرق إليه منهم باطل، بل نزل بالحق، ومشتملا أيضًا على الحق، فأخباره صدق، وأوامره ونواهيه عدل ‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا‏}‏ وأخبر أنه أنزله ليحكم بين الناس‏.‏

وفي الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ‏}‏‏.‏ فيحتمل أن هذه الآية في الحكم بين الناس في مسائل النزاع والاختلاف، وتلك في تبيين جميع الدين وأصوله وفروعه، ويحتمل أن الآيتين كلتيهما معناهما واحد، فيكون الحكم بين الناس هنا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأعراض والأموال وسائر الحقوق وفي العقائد وفي جميع مسائل الأحكام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ لا بهواك بل بما علَّمك الله وألهمك، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى‏}‏ وفي هذا دليل على عصمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يُبَلِّغ عن الله من جميع الأحكام وغيرها، وأنه يشترط في الحاكم العلم والعدل لقوله‏:‏ ‏{‏بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ‏}‏ ولم يقل‏:‏ بما رأيت‏.‏ ورتب أيضًا الحكم بين الناس على معرفة الكتاب، ولما أمر الله بالحكم بين الناس المتضمن للعدل والقسط نهاه عن الجور والظلم الذي هو ضد العدل فقال‏:‏ ‏{‏وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا‏}‏ أي‏:‏ لا تخاصم عن مَن عرفت خيانته، من مدع ما ليس له، أو منكرٍ حقا عليه، سواء علم ذلك أو ظنه‏.‏ ففي هذا دليل على تحريم الخصومة في باطل، والنيابة عن المبطل في الخصومات الدينية والحقوق الدنيوية‏.‏

ويدل مفهوم الآية على جواز الدخول في نيابة الخصومة لمن لم يعرف منه ظلم‏.‏

‏{‏وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ‏}‏ مما صدر منك إن صدر‏.‏

{‏إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ أي‏:‏ يغفر الذنب العظيم لمن استغفره، وتاب إليه وأناب ويوفقه للعمل الصالح بعد ذلك الموجِب لثوابه وزوال عقابه‏.‏

{‏وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ‏}‏ ‏"‏الاختيان‏"‏ و ‏"‏الخيانة‏"‏ بمعنى الجناية والظلم والإثم، وهذا يشمل النهي عن المجادلة، عن من أذنب وتوجه عليه عقوبة من حد أو تعزير، فإنه لا يجادل عنه بدفع ما صدر منه من الخيانة، أو بدفع ما ترتب على ذلك من العقوبة الشرعية‏.‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا‏}‏ أي‏:‏ كثير الخيانة والإثم، وإذا انتفى الحب ثبت ضده وهو البُغْض، وهذا كالتعليل، للنهي المتقدم‏.‏

ثم ذكر عن هؤلاء الخائنين أنهم ‏{‏يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ‏}‏ وهذا من ضعف الإيمان، ونقصان اليقين، أن تكون مخافة الخلق عندهم أعظم من مخافة الله، فيحرصون بالطرق المباحة والمحرمة على عدم الفضيحة عند الناس، وهم مع ذلك قد بارزوا الله بالعظائم، ولم يبالوا بنظره واطلاعه عليهم‏.‏

وهو معهم بالعلم في جميع أحوالهم، خصوصًا في حال تبييتهم ما لا يرضيه من القول، من تبرئة الجاني، ورمي البريء بالجناية، والسعي في ذلك للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليفعل ما بيتوه‏.‏

فقد جمعوا بين عدة جنايات، ولم يراقبوا رب الأرض والسموات، المطلع على سرائرهم وضمائرهم، ولهذا توعدهم تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا‏}‏ أي‏:‏ قد أحاط بذلك علما، ومع هذا لم يعاجلهم بالعقوبة بل استأنى بهم، وعرض عليهم التوبة وحذرهم من الإصرار على ذنبهم الموجب للعقوبة البليغة‏.‏

{‏هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا‏}‏ أي‏:‏ هبكم جادلتم عنهم في هذه الحياة الدنيا، ودفع عنهم جدالُكم بعض ما تحذرون من العار والفضيحة عند الخَلْق، فماذا يغني عنهم وينفعهم‏؟‏ ومن يجادل الله عنهم يوم القيامة حين تتوجه عليهم الحجة، وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون‏؟‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ‏}

فمن يجادل عنهم من يعلم السر وأخفى ومن أقام عليهم من الشهود ما لا يمكن معه الإنكار‏؟‏ وفي هذه الآية إرشاد إلى المقابلة بين ما يتوهم من مصالح الدنيا المترتبة على ترك أوامر الله أو فعل مناهيه، وبين ما يفوت من ثواب الآخرة أو يحصل من عقوباتها‏.‏

فيقول من أمرته نفسه بترك أمر الله ها أنت تركت أمره كسلا وتفريطا فما النفع الذي انتفعت به‏؟‏ وماذا فاتك من ثواب الآخرة‏؟‏ وماذا ترتب على هذا الترك من الشقاء والحرمان والخيبة والخسران‏؟‏

وكذلك إذا دعته نفسه إلى ما تشتهيه من الشهوات المحرمة قال لها‏:‏ هبك فعلت ما اشتهيت فإن لذته تنقضي ويعقبها من الهموم والغموم والحسرات، وفوات الثواب وحصول العقاب ـ ما بعضه يكفي العاقل في الإحجام عنها‏.‏ وهذا من أعظم ما ينفع العبدَ تدبرُه، وهو خاصة العقل الحقيقي‏.‏ بخلاف الذي يدعي العقل، وليس كذلك، فإنه بجهله وظلمه يؤثر اللذة الحاضرة والراحة الراهنة، ولو ترتب عليها ما ترتب‏.‏ والله المستعان‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ أي‏:‏ من تجرأ على المعاصي واقتحم على الإثم ثم استغفر الله استغفارا تاما يستلزم الإقرار بالذنب والندم عليه والإقلاع والعزم على أن لا يعود‏.‏ فهذا قد وعده من لا يخلف الميعاد بالمغفرة والرحمة‏.‏

فيغفر له ما صدر منه من الذنب، ويزيل عنه ما ترتب عليه من النقص والعيب، ويعيد إليه ما تقدم من الأعمال الصالحة، ويوفقه فيما يستقبله من عمره، ولا يجعل ذنبه حائلا عن توفيقه، لأنه قد غفره، وإذا غفره غفر ما يترتب عليه‏.‏

واعلم أن عمل السوء عند الإطلاق يشمل سائر المعاصي، الصغيرة والكبيرة، وسمي ‏"‏سوءًا‏"‏ لكونه يسوء عامله بعقوبته، ولكونه في نفسه سيئًا غير حسن‏.‏

وكذلك ظلم النفس عند الإطلاق يشمل ظلمها بالشرك فما دونه‏.‏ ولكن عند اقتران أحدهما بالآخر قد يفسر كل واحد منهما بما يناسبه، فيفسر عمل السوء هنا بالظلم الذي يسوء الناس، وهو ظلمهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم‏.‏

ويفسر ظلم النفس بالظلم والمعاصي التي بين الله وبين عبده، وسمي ظلم النفس ‏"‏ظلما‏"‏ لأن نفس العبد ليست ملكا له يتصرف فيها بما يشاء، وإنما هي ملك لله تعالى قد جعلها أمانة عند العبد وأمره أن يقيمها على طريق العدل، بإلزامها للصراط المستقيم علمًا وعملًا، فيسعى في تعليمها ما أمر به ويسعى في العمل بما يجب، فسعيه في غير هذا الطريق ظلم لنفسه وخيانة وعدول بها عن العدل، الذي ضده الجور والظلم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ‏}‏ وهذا يشمل كل ما يؤثم من صغير وكبير، فمن كسب سيئة فإن عقوبتها الدنيوية والأخروية على نفسه، لا تتعداها إلى غيرها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏ لكن إذا ظهرت السيئات فلم تنكر عمت عقوبتها وشمل إثمها، فلا تخرج أيضًا عن حكم هذه الآية الكريمة، لأن من ترك الإنكار الواجب فقد كسب سيئة‏.‏

وفي هذا بيان عدل الله وحكمته، أنه لا يعاقب أحدا بذنب أحد، ولا يعاقب أحدا أكثر من العقوبة الناشئة عن ذنبه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا‏}‏ أي‏:‏ له العلم الكامل والحكمة التامة‏.‏

ومن علمه وحكمته أنه يعلم الذنب وما صدر منه، والسبب الداعي لفعله، والعقوبة المترتبة على فعله، ويعلم حالة المذنب، أنه إن صدر منه الذنب بغلبة دواعي نفسه الأمارة بالسوء مع إنابته إلى ربه في كثير من أوقاته، أنه سيغفر له ويوفقه للتوبة‏.‏

وإن صدر منه بتجرئه على المحارم استخفافا بنظر ربه، وتهاونا بعقابه، فإن هذا بعيد من المغفرة بعيد من التوفيق للتوبة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً‏}‏ أي‏:‏ ذنبًا كبيرًا ‏{‏أَوْ إِثْمًا‏}‏ ما دون ذلك‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يَرْمِ بِهِ‏}‏ أي يتهم بذنبه ‏{‏بَرِيئًا‏}‏ من ذلك الذنب، وإن كان مذنبا‏.‏ ‏{‏فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا‏}‏ أي‏:‏ فقد حمل فوق ظهره بهتا للبريء وإثمًا ظاهرًا بينًا، وهذا يدل على أن ذلك من كبائر الذنوب وموبقاتها، فإنه قد جمع عدة مفاسد‏:‏ كسب الخطيئة والإثم، ثم رَمْي مَن لم يفعلها بفعلها، ثم الكذب الشنيع بتبرئة نفسه واتهام البريء، ثم ما يترتب على ذلك من العقوبة الدنيوية، تندفع عمن وجبت عليه، وتقام على من لا يستحقها‏.‏

ثم ما يترتب على ذلك أيضًا من كلام الناس في البريء إلى غير ذلك من المفاسد التي نسأل الله العافية منها ومن كل شر‏.‏

ثم ذكر منته على رسوله بحفظه وعصمته ممن أراد أن يضله فقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ‏}‏ وذلك أن هذه الآيات الكريمات قد ذكر المفسرون أن سبب نزولها‏:‏ أن أهل بيت سرقوا في المدينة، فلما اطلع على سرقتهم خافوا الفضيحة، وأخذوا سرقتهم فرموها ببيت من هو بريء من ذلك‏.‏

واستعان السارق بقومه أن يأتوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويطلبوا منه أن يبرئ صاحبهم على رءوس الناس، وقالوا‏:‏ إنه لم يسرق وإنما الذي سرق من وجدت السرقة ببيته وهو البريء‏.‏ فهَمَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يبرئ صاحبهم، فأنزل الله هذه الآيات تذكيرا وتبيينا لتلك الواقعة وتحذيرا للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المخاصمة عن الخائنين، فإن المخاصمة عن المبطل من الضلال، فإن الضلال نوعان‏:‏

ضلال في العلم، وهو الجهل بالحق‏.‏ وضلال في العمل، وهو العمل بغير ما يجب‏.‏ فحفظ الله رسوله عن هذا النوع من الضلال ‏[‏كما حفظه عن الضلال في الأعمال‏]‏

وأخبر أن كيدهم ومكرهم يعود على أنفسهم، كحالة كل ماكر، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ‏}‏ لكون ذلك المكر وذلك التحيل لم يحصل لهم فيه مقصودهم، ولم يحصل لهم إلا الخيبة والحرمان والإثم والخسران‏.‏ وهذه نعمة كبيرة على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تتضمن النعمة بالعمل، وهو التوفيق لفعل ما يجب، والعصمة له عن كل محرم‏.‏

ثم ذكر نعمته عليه بالعلم فقال‏:‏ ‏{‏وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ‏}‏ أي‏:‏ أنزل عليك هذا القرآن العظيم والذكر الحكيم الذي فيه تبيان كل شيء وعلم الأولين والآخِرين‏.‏

والحكمة‏:‏ إما السُّنَّة التي قد قال فيها بعض السلف‏:‏ إن السُّنَّة تنزل عليه كما ينزل القرآن‏.‏

وإما معرفة أسرار الشريعة الزائدة على معرفة أحكامها، وتنزيل الأشياء منازلها وترتيب كل شيء بحسبه‏.‏

{‏وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ‏}‏ وهذا يشمل جميع ما علمه الله تعالى‏.‏ فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما وصفه الله قبل النبوة بقوله‏:‏ ‏{‏مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ‏}‏ ‏{‏وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى‏}

ثم لم يزل يوحي الله إليه ويعلمه ويكمله حتى ارتقى مقاما من العلم يتعذر وصوله على الأولين والآخرين، فكان أعلم الخلق على الإطلاق، وأجمعهم لصفات الكمال، وأكملهم فيها، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا‏}‏ ففضله على الرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعظم من فضله على كل مخلوق

وأجناس الفضل الذي قد فضله الله به لا يمكن استقصاؤها ولا يتيسر إحصاؤها

‏[‏114‏]‏ ‏{‏لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا‏}

أي‏:‏ لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون، وإذا لم يكن فيه خير، فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه‏.‏

ثم استثنى تعالى فقال‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ‏}‏ من مال أو علم أو أي نفع كان، بل لعله يدخل فيه العبادات القاصرة كالتسبيح والتحميد ونحوه، كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏:‏ ‏"‏إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة‏"‏ الحديث‏.‏

‏{‏أَوْ مَعْرُوفٍ‏}‏ وهو الإحسان والطاعة وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنه، وإذا أطلق الأمر بالمعروف من غير أن يقرن بالنهي عن المنكر دخل فيه النهي عن المنكر، وذلك لأن ترك المنهيات من المعروف، وأيضًا لا يتم فعل الخير إلا بترك الشر‏.‏ وأما عند الاقتران فيفسر المعروف بفعل المأمور، والمنكر بترك المنهي‏.‏

{‏أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ‏}‏ والإصلاح لا يكون إلا بين متنازعين متخاصمين، والنزاع والخصام والتغاضب يوجب من الشر والفرقة ما لا يمكن حصره، فلذلك حث الشارع على الإصلاح بين الناس في الدماء والأموال والأعراض، بل وفي الأديان كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ‏}‏ الآية‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالصُّلْحُ خَيْرٌ‏}‏ والساعي في الإصلاح بين الناس أفضل من القانت بالصلاة والصيام والصدقة، والمصلح لا بد أن يصلح الله سعيه وعمله‏.‏

كما أن الساعي في الإفساد لا يصلح الله عمله ولا يتم له مقصوده كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏‏.‏ فهذه الأشياء حيثما فعلت فهي خير، كما دل على ذلك الاستثناء‏.‏

ولكن كمال الأجر وتمامه بحسب النية والإخلاص، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ فلهذا ينبغي للعبد أن يقصد وجه الله تعالى ويخلص العمل لله في كل وقت وفي كل جزء من أجزاء الخير، ليحصل له بذلك الأجر العظيم، وليتعود الإخلاص فيكون من المخلصين، وليتم له الأجر، سواء تم مقصوده أم لا، لأن النية حصلت واقترن بها ما يمكن من العمل‏.‏

‏[‏115، 116‏]‏ ‏{‏وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضلالًا بَعِيدًا‏}

أي‏:‏ ومن يخالف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويعانده فيما جاء به ‏{‏مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى‏}‏ بالدلائل القرآنية والبراهين النبوية‏.‏

{‏وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ وسبيلهم هو طريقهم في عقائدهم وأعمالهم ‏{‏نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى‏}‏ أي‏:‏ نتركه وما اختاره لنفسه، ونخذله فلا نوفقه للخير، لكونه رأى الحق وعلمه وتركه، فجزاؤه من الله عدلًا أن يبقيه في ضلاله حائرًا ويزداد ضلالًا إلى ضلاله‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}

ويدل مفهومها على أن من لم يشاقق الرسول، ويتبع سبيل المؤمنين، بأن كان قصده وجه الله واتباع رسوله ولزوم جماعة المسلمين، ثم صدر منه من الذنوب أو الهّم بها ما هو من مقتضيات النفوس، وغلبات الطباع، فإن الله لا يوليه نفسه وشيطانه بل يتداركه بلطفه، ويمن عليه بحفظه ويعصمه من السوء، كما قال تعالى عن يوسف عليه السلام‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ‏}‏ أي‏:‏ بسبب إخلاصه صرفنا عنه السوء، وكذلك كل مخلص، كما يدل عليه عموم التعليل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ‏}‏ أي‏:‏ نعذبه فيها عذابا عظيما‏.‏ ‏{‏وَسَاءَتْ مَصِيرًا‏}‏ أي‏:‏ مرجعا له ومآلا‏.‏

وهذا الوعيد المرتب على الشقاق ومخالفة المؤمنين مراتب لا يحصيها إلا الله بحسب حالة الذنب صغرا وكبرا، فمنه ما يخلد في النار ويوجب جميع الخذلان‏.‏ ومنه ما هو دون ذلك، فلعل الآية الثانية كالتفصيل لهذا المطلق‏.‏

وهو‏:‏ أن الشرك لا يغفره الله تعالى لتضمنه القدح في رب العالمين وفي وحدانيته وتسوية المخلوق الذي لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا بمن هو مالك النفع والضر، الذي ما من نعمة إلا منه، ولا يدفع النقم إلا هو، الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه، والغنى التام بجميع وجوه الاعتبارات‏.‏

فمن أعظم الظلم وأبعد الضلال عدم إخلاص العبادة لمن هذا شأنه وعظمته، وصرف شيء منها للمخلوق الذي ليس له من صفات الكمال شيء، ولا له من صفات الغنى شيء بل ليس له إلا العدم‏.‏ عدم الوجود وعدم الكمال وعدم الغنى، والفقر من جميع الوجوه‏.‏

وأما ما دون الشرك من الذنوب والمعاصي فهو تحت المشيئة، إن شاء الله غفره برحمته وحكمته، وإن شاء عذب عليه وعاقب بعدله وحكمته، وقد استدل بهذه الآية الكريمة على أن إجماع هذه الأمة حجة وأنها معصومة من الخطأ‏.‏

ووجه ذلك‏:‏ أن الله توعد من خالف سبيل المؤمنين بالخذلان والنار، و‏{‏سبيل المؤمنين‏}‏ مفرد مضاف يشمل سائر ما المؤمنون عليه من العقائد والأعمال‏.‏ فإذا اتفقوا على إيجاب شيء أو استحبابه، أو تحريمه أو كراهته، أو إباحته ـ فهذا سبيلهم، فمن خالفهم في شيء من ذلك بعد انعقاد إجماعهم عليه، فقد اتبع غير سبيلهم‏.‏ ويدل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ‏}

ووجه الدلالة منها‏:‏ أن الله تعالى أخبر أن المؤمنين من هذه الأمة لا يأمرون إلا بالمعروف، فإذا اتفقوا على إيجاب شيء أو استحبابه فهو مما أمروا به، فيتعين بنص الآية أن يكون معروفا ولا شيء بعد المعروف غير المنكر، وكذلك إذا اتفقوا على النهي عن شيء فهو مما نهوا عنه فلا يكون إلا منكرا، ومثل ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس‏}‏ فأخبر تعالى أن هذه الأمة جعلها الله وسطا أي‏:‏ عدلا خيارا ليكونوا شهداء على الناس أي‏:‏ في كل شيء، فإذا شهدوا على حكم بأن الله أمر به أو نهى عنه أو أباحه، فإن شهادتهم معصومة لكونهم عالمين بما شهدوا به عادلين في شهادتهم، فلو كان الأمر بخلاف ذلك لم يكونوا عادلين في شهادتهم ولا عالمين بها‏.‏

ومثل ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ يفهم منها أن ما لم يتنازعوا فيه بل اتفقوا عليه أنهم غير مأمورين برده إلى الكتاب والسنة، وذلك لا يكون إلا موافقا للكتاب والسنة فلا يكون مخالفا‏.‏

فهذه الأدلة ونحوها تفيد القطع أن إجماع هذه الأمة حجة قاطعة، ولهذا بيَّن الله قبح ضلال المشركين بقوله‏:‏

‏[‏117 ـ 121‏]‏ ‏{‏إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا‏}

أي‏:‏ ما يدعو هؤلاء المشركون من دون الله إلا إناثا، أي‏:‏ أوثانا وأصناما مسميات بأسماء الإناث ك ـ ‏"‏العزى‏"‏ و ‏"‏مناة‏"‏ ونحوهما، ومن المعلوم أن الاسم دال على المسمى‏.‏ فإذا كانت أسماؤها أسماء مؤنثة ناقصة، دل ذلك على نقص المسميات بتلك الأسماء، وفقدها لصفات الكمال، كما أخبر الله تعالى في غير موضع من كتابه، أنها لا تخلق ولا ترزق ولا تدفع عن عابديها بل ولا عن نفسها؛ نفعا ولا ضرا ولا تنصر أنفسها ممن يريدها بسوء، وليس لها أسماع ولا أبصار ولا أفئدة، فكيف يُعبد من هذا وصفه ويترك الإخلاص لمن له الأسماء الحسنى والصفات العليا والحمد والكمال، والمجد والجلال، والعز والجمال، والرحمة والبر والإحسان، والانفراد بالخلق والتدبير، والحكمة العظيمة في الأمر والتقدير‏؟‏‏"‏هل هذا إلا من أقبح القبيح الدال على نقص صاحبه، وبلوغه من الخسة والدناءة أدنى ما يتصوره متصور، أو يصفه واصف‏؟‏‏"‏

ومع ذلك فعبادتهم إنما صورتها فقط لهذه الأوثان الناقصة‏.‏ وبالحقيقة ما عبدوا غير الشيطان الذي هو عدوهم الذي يريد إهلاكهم ويسعى في ذلك بكل ما يقدر عليه، الذي هو في غاية البعد من الله، لعنه الله وأبعده عن رحمته، فكما أبعده الله من رحمته يسعى في إبعاد العباد عن رحمة الله‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ‏}‏ ولهذا أخبر الله عن سعيه في إغواء العباد، وتزيين الشر لهم والفساد وأنه قال لربه مقسما‏:‏ ‏{‏لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا‏}‏ أي‏:‏ مقدرا‏.‏ علم اللعين أنه لا يقدر على إغواء جميع عباد الله، وأن عباد الله المخلصين ليس له عليهم سلطان، وإنما سلطانه على من تولاه، وآثر طاعته على طاعة مولاه‏.‏

وأقسم في موضع آخر ليغوينهم ‏{‏لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ‏}‏ فهذا الذي ظنه الخبيث وجزم به، أخبر الله تعالى بوقوعه بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}

وهذا النصيب المفروض الذي أقسم لله إنه يتخذهم ذكر ما يريد بهم وما يقصده لهم بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَأُضِلَّنَّهُمْ‏}‏ أي‏:‏ عن الصراط المستقيم ضلالًا في العلم، وضلالًا في العمل‏.‏

‏{‏وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ‏}‏ أي‏:‏ مع الإضلال، لأمنينهم أن ينالوا ما ناله المهتدون‏.‏ وهذا هو الغرور بعينه، فلم يقتصر على مجرد إضلالهم حتى زين لهم ما هم فيه من الضلال‏.‏ وهذا زيادة شر إلى شرهم حيث عملوا أعمال أهل النار الموجبة للعقوبة وحسبوا أنها موجبة للجنة، واعتبر ذلك باليهود والنصارى ونحوهم فإنهم كما حكى الله عنهم، ‏{‏وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ‏}‏ ‏{‏كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ‏}‏ ‏{‏قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا‏}‏ الآية‏.‏

وقال تعالى عن المنافقين إنهم يقولون يوم القيامة للمؤمنين‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ‏}

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ‏}‏ أي‏:‏ بتقطيع آذانها، وذلك كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام فنبه ببعض ذلك على جميعه، وهذا نوع من الإضلال يقتضي تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله، ويلتحق بذلك من الاعتقادات الفاسدة والأحكام الجائرة ما هو من أكبر الإضلال‏.‏ ‏{‏وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ‏}‏ وهذا يتناول تغيير الخلقة الظاهرة بالوشم، والوشر والنمص والتفلج للحسن، ونحو ذلك مما أغواهم به الشيطان فغيروا خلقة الرحمن‏.‏

وذلك يتضمن التسخط من خلقته والقدح في حكمته، واعتقاد أن ما يصنعون بأيديهم أحسن من خلقة الرحمن، وعدم الرضا بتقديره وتدبيره، ويتناول أيضًا تغيير الخلقة الباطنة، فإن الله تعالى خلق عباده حنفاء مفطورين على قبول الحق وإيثاره، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن هذا الخلق الجميل، وزينت لهم الشر والشرك والكفر والفسوق والعصيان‏.‏

فإن كل مولود يولد على الفطرة ولكن أبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه، ونحو ذلك مما يغيرون به ما فطر الله عليه العباد من توحيده وحبه ومعرفته‏.‏ فافترستهم الشياطين في هذا الموضع افتراس السبع والذئاب للغنم المنفردة‏.‏ لولا لطف الله وكرمه بعباده المخلصين لجرى عليهم ما جرى على هؤلاء المفتونين، وهذا الذي جرى عليهم من توليهم عن ربهم وفاطرهم وتوليهم لعدوهم المريد لهم الشر من كل وجه، فخسروا الدنيا والآخرة، ورجعوا بالخيبة والصفقة الخاسرة، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا‏}‏ وأي خسار أبين وأعظم ممن خسر دينه ودنياه وأوبقته معاصيه وخطاياه‏؟‏‏!‏‏!‏ فحصل له الشقاء الأبدي، وفاته النعيم السرمدي‏.‏

كما أن من تولى مولاه وآثر رضاه، ربح كل الربح، وأفلح كل الفلاح، وفاز بسعادة الدارين، وأصبح قرير العين، فلا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، اللهم تولنا فيمن توليت، وعافنا فيمن عافيت‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ‏}‏ أي‏:‏ يعد الشيطان من يسعى في إضلالهم، والوعد يشمل حتى الوعيد كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ‏}‏ فإنه يعدهم إذا أنفقوا في سبيل الله افتقروا، ويخوفهم إذا جاهدوا بالقتل وغيره، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ‏}‏ الآية‏.‏ ويخوفهم عند إيثار مرضاة الله بكل ما يمكن وما لا يمكن مما يدخله في عقولهم حتى يكسلوا عن فعل الخير، وكذلك يمنيهم الأماني الباطلة التي هي عند التحقيق كالسراب الذي لا حقيقة له، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ‏}‏ أي‏:‏ من انقاد للشيطان وأعرض عن ربه، وصار من أتباع إبليس وحزبه، مستقرهم النار‏.‏ ‏{‏وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا‏}‏ أي‏:‏ مخلصا ولا ملجأ بل هم خالدون فيها أبد الآباد‏.‏

‏[‏122‏]‏ ولما بين مآل الأشقياء أولياء الشيطان ذكر مآل السعداء أوليائه فقال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أبدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا‏}

أي‏:‏ ‏{‏آمَنُوا‏}‏ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقَدَر خيره وشره على الوجه الذي أمروا به علما وتصديقا وإقرارا‏.‏ ‏{‏وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ الناشئة عن الإيمان‏؟‏

وهذا يشمل سائر المأمورات من واجب ومستحب، الذي على القلب، والذي على اللسان، والذي على بقية الجوارح‏.‏ كل له من الثواب المرتب على ذلك بحسب حاله ومقامه، وتكميله للإيمان والعمل الصالح‏.‏

ويفوته ما رتب على ذلك بحسب ما أخل به من الإيمان والعمل، وذلك بحسب ما علم من حكمة الله ورحمته، وكذلك وعده الصادق الذي يعرف من تتبع كتاب الله وسنة رسوله‏.‏

ولهذا ذكر الثواب المرتب على ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ‏}‏ فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من أنواع المآكل والمشارب اللذيذة، والمناظر العجيبة، والأزواج الحسنة، والقصور، والغرف المزخرفة، والأشجار المتدلية، والفواكه المستغربة، والأصوات الشجية، والنعم السابغة، وتزاور الإخوان، وتذكرهم ما كان منهم في رياض الجنان، وأعلى من ذلك كله وأجلّ رضوان الله عليهم وتمتع الأرواح بقربه، والعيون برؤيته، والأسماع بخطابه الذي ينسيهم كل نعيم وسرور، ولولا الثبات من الله لهم لطاروا وماتوا من الفرح والحبور، فلله ما أحلى ذلك النعيم وما أعلى ما أنالهم الرب الكريم، وماذا حصل لهم من كل خير وبهجة لا يصفه الواصفون، وتمام ذلك وكماله الخلود الدائم في تلك المنازل العاليات، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا أبدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا‏}

فصدق الله العظيم الذي بلغ قولُه وحديثُه في الصدق أعلى ما يكون، ولهذا لما كان كلامه صدقا وخبره حقا، كان ما يدل عليه مطابقةً وتضمنًا وملازمةً كل ذلك مراد من كلامه، وكذلك كلام رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكونه لا يخبر إلا بأمره ولا ينطق إلا عن وحيه‏.‏

‏[‏123، 124‏]‏ ‏{‏لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا‏}‏

أي‏:‏ ‏{‏لَيْسَ‏}‏ الأمر والنجاة والتزكية ‏{‏بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏ والأماني‏:‏ أحاديث النفس المجردة عن العمل، المقترن بها دعوى مجردة لو عورضت بمثلها لكانت من جنسها‏.‏ وهذا عامّ في كل أمر، فكيف بأمر الإيمان والسعادة الأبدية‏؟‏‏!‏

فإن أماني أهل الكتاب قد أخبر الله بها أنهم قالوا‏:‏ ‏{‏لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ‏}‏ وغيرهم ممن ليس ينتسب لكتاب ولا رسول من باب أولى وأحرى‏.‏

وكذلك أدخل الله في ذلك من ينتسب إلى الإسلام لكمال العدل والإنصاف، فإن مجرد الانتساب إلى أي دين كان، لا يفيد شيئًا إن لم يأت الإنسان ببرهان على صحة دعواه، فالأعمال تصدق الدعوى أو تكذبها ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ وهذا شامل لجميع العاملين، لأن السوء شامل لأي ذنب كان

من صغائر الذنوب وكبائرها، وشامل أيضًا لكل جزاء قليل أو كثير، دنيوي أو أخروي‏.‏

والناس في هذا المقام درجات لا يعلمها إلا الله، فمستقل ومستكثر، فمن كان عمله كله سوءا وذلك لا يكون إلا كافرا‏.‏ فإذا مات من دون توبة جوزي بالخلود في العذاب الأليم‏.‏

ومن كان عمله صالحا، وهو مستقيم في غالب أحواله، وإنما يصدر منه بعض الأحيان بعض الذنوب الصغار فما يصيبه من الهم والغم والأذى و ‏[‏بعض‏]‏

الآلام في بدنه أو قلبه أو حبيبه أو ماله ونحو ذلك ـ فإنها مكفرات للذنوب، وهي مما يجزى به على عمله، قيضها الله لطفا بعباده، وبين هذين الحالين مراتب كثيرة‏.‏

وهذا الجزاء على عمل السوء العام مخصوص في غير التائبين، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، كما دلت على ذلك النصوص‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا‏}‏ لإزالة بعض ما لعله يتوهم أن من استحق المجازاة على عمله قد يكون له ولي أو ناصر أو شافع يدفع عنه ما استحقه، فأخبر تعالى بانتفاء ذلك، فليس له ولي يحصل له المطلوب، ولا نصير يدفع عنه المرهوب، إلا ربه ومليكه‏.‏

{‏وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ‏}‏ دخل في ذلك سائر الأعمال القلبية والبدنية، ودخل أيضًا كل عامل من إنس أو جن، صغير أو كبير، ذكر أو أنثى‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ وهذا شرط لجميع الأعمال، لا تكون صالحة ولا تقبل ولا يترتب عليها الثواب ولا يندفع بها العقاب إلا بالإيمان‏.‏

فالأعمال بدون الإيمان كأغصان شجرة قطع أصلها وكبناء بني على موج الماء، فالإيمان هو الأصل والأساس والقاعدة التي يبنى عليه كل شيء، وهذا القيد ينبغي التفطن له في كل عمل أطلق، فإنه مقيد به‏.‏

‏{‏فَأُولَئِكَ‏}‏ أي‏:‏ الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ‏{‏يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ‏}‏ المشتملة على ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ‏{‏وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا‏}‏ أي‏:‏ لا قليلا ولا كثيرًا مما عملوه من الخير، بل يجدونه كاملًا موفرًا، مضاعفًا أضعافًا كثيرة‏.‏

‏[‏125‏]‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا‏}

أي‏:‏ لا أحد أحسن من دين من جمع بين الإخلاص للمعبود، وهو إسلام الوجه لله الدال على استسلام القلب وتوجهه وإنابته وإخلاصه، وتوجه الوجه وسائر الأعضاء لله‏.‏

‏{‏وَهُوَ‏}‏ مع هذا الإخلاص والاستسلام ‏{‏مُحْسِنٌ‏}‏ أي‏:‏ متبع لشريعة الله التي أرسل بها رسله، وأنزل كتبه، وجعلها طريقا لخواص خلقه وأتباعهم‏.‏

{‏وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ‏}‏ أي‏:‏ دينه وشرعه ‏{‏حَنِيفًا‏}‏ أي‏:‏ مائلا عن الشرك إلى التوحيد، وعن التوجه للخلق إلى الإقبال على الخالق، ‏{‏وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا‏}‏ والخُلة أعلى أنواع المحبة، وهذه المرتبة حصلت للخليلين محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وأما المحبة من الله فهي لعموم المؤمنين، وإنما اتخذ الله إبراهيم خليلا لأنه وفَّى بما أُمر به وقام بما ابْتُلي به، فجعله الله إماما للناس، واتخذه خليلا، ونوه بذكره في العالمين‏.‏

‏[‏126‏]‏ ‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا‏}

وهذه الآية الكريمة فيها بيان إحاطة الله تعالى بجميع الأشياء، فأخبر أنه له ‏{‏مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ‏}‏ أي‏:‏ الجميع ملكه وعبيده، فهم المملوكون وهو المالك المتفرد بتدبيرهم، وقد أحاط علمه بجميع المعلومات، وبصره بجميع المبصرات، وسمعه بجميع المسموعات، ونفذت مشيئته وقدرته بجميع الموجودات، ووسعت رحمته أهل الأرض والسموات، وقهر بعزه وقهره كل مخلوق، ودانت له جميع الأشياء‏.‏

‏[‏127‏]‏ ‏{‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا‏}

الاستفتاء‏:‏ طلب السائل من المسئول بيان الحكم الشرعي في ذلك المسئول عنه‏.‏ فأخبر عن المؤمنين أنهم يستفتون الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حكم النساء المتعلق بهم، فتولى الله هذه الفتوى بنفسه فقال‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ‏}‏ فاعملوا على ما أفتاكم به في جميع شئون النساء، من القيام بحقوقهن وترك ظلمهن عمومًا و خصوصًا‏.‏

وهذا أمر عام يشمل جميع ما شرع الله أمرا ونهيا في حق النساء الزوجات وغيرهن، الصغار والكبار، ثم خص ـ بعد التعميم ـ الوصية بالضعاف من اليتامى والولدان اهتماما بهم وزجرا عن التفريط في حقوقهم فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ‏}‏ أي‏:‏ ويفتيكم أيضًا بما يتلى عليكم في الكتاب في شأن اليتامى من النساء‏.‏ ‏{‏اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ‏}‏ وهذا إخبار عن الحالة الموجودة الواقعة في ذلك الوقت، فإن اليتيمة إذا كانت تحت ولاية الرجل بخسها حقها وظلمها، إما بأكل مالها الذي لها أو بعضه، أو منعها من التزوج لينتفع بمالها، خوفا من استخراجه من يده إنْ زوَّجها، أو يأخذ من مهرها الذي تتزوج به بشرط أو غيره، هذا إذا كان راغبا عنها، أو يرغب فيها وهي ذات جمال ومال ولا يقسط في مهرها، بل يعطيها دون ما تستحق، فكل هذا ظلم يدخل تحت هذا النص ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ ترغبون عن نكاحهن أو في نكاحهن كما ذكرنا تمثيله‏.‏

{‏وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَان‏}‏ أي‏:‏ ويفتيكم في المستضعفين من الولدان الصغار، أن تعطوهم حقهم من الميراث وغيره وأن لا تستولوا على أموالهم على وجه الظلم والاستبداد‏.‏ ‏{‏وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ‏}‏ أي‏:‏ بالعدل التام، وهذا يشمل القيام عليهم بإلزامهم أمر الله وما أوجبه على عباده، فيكون الأولياء مكلفين بذلك، يلزمونهم بما أوجبه الله‏.‏

ويشمل القيام عليهم في مصالحهم الدنيوية بتنمية أموالهم وطلب الأحظ لهم فيها، وأن لا يقربوها إلا بالتي هي أحسن، وكذلك لا يحابون فيهم صديقا ولا غيره، في تزوج وغيره، على وجه الهضم لحقوقهم‏.‏ وهذا من رحمته تعالى بعباده، حيث حثّ غاية الحث على القيام بمصالح من لا يقوم بمصلحة نفسه لضعفه وفقد أبيه‏.‏

ثم حثّ على الإحسان عمومًا فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ‏}‏ لليتامى ولغيرهم سواء كان الخير متعديا أو لازما ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا‏}‏ أي‏:‏ قد أحاط علمه بعمل العاملين للخير، قلة وكثرة، حسنا وضده، فيجازي كُلًّا بحسب عمله‏.‏

‏[‏128‏]‏ ‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا‏}

أي‏:‏ إذا خافت المرأة نشوز زوجها أي‏:‏ ترفعه عنها وعدم رغبته فيها وإعراضه عنها، فالأحسن في هذه الحالة أن يصلحا بينهما صلحا بأن تسمح المرأة عن بعض حقوقها اللازمة لزوجها على وجه تبقى مع زوجها، إما أن ترضى بأقل من الواجب لها من النفقة أو الكسوة أو المسكن، أو القسم بأن تسقط حقها منه، أو تهب يومها وليلتها لزوجها أو لضرتها‏.‏

فإذا اتفقا على هذه الحالة فلا جناح ولا بأس عليهما فيها، لا عليها ولا على الزوج، فيجوز حينئذ لزوجها البقاء معها على هذه الحال، وهي خير من الفرقة، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَالصُّلْحُ خَيْرٌ‏}‏

ويؤخذ من عموم هذا اللفظ والمعنى أن الصلح بين مَن بينهما حق أو منازعة في جميع الأشياء أنه خير من استقصاء كل منهما على كل حقه، لما فيها من الإصلاح وبقاء الألفة والاتصاف بصفة السماح‏.‏

وهو جائز في جميع الأشياء إلا إذا أحلّ حراما أو حرّم حلالا، فإنه لا يكون صلحا وإنما يكون جورا‏.‏

واعلم أن كل حكم من الأحكام لا يتم ولا يكمل إلا بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه، فمن ذلك هذا الحكم الكبير الذي هو الصلح، فذكر تعالى المقتضي لذلك ونبه على أنه خير، والخير كل عاقل يطلبه ويرغب فيه، فإن كان ـ مع ذلك ـ قد أمر الله به وحثّ عليه ازداد المؤمن طلبا له ورغبة فيه‏.‏

وذكر المانع بقوله‏:‏ ‏{‏وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحّ‏}‏ أي‏:‏ جبلت النفوس على الشح، وهو‏:‏ عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان، والحرص على الحق الذي له، فالنفوس مجبولة على ذلك طبعا، أي‏:‏ فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخُلُق الدنيء من نفوسكم، وتستبدلوا به ضده وهو السماحة، وهو بذل الحق الذي عليك؛ والاقتناع ببعض الحق الذي لك‏.‏

فمتى وفق الإنسان لهذا الخُلُق الحسن سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله، وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب‏.‏ بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه، فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة، لأنه لا يرضيه إلا جميع ماله، ولا يرضى أن يؤدي ما عليه، فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا‏}‏ أي‏:‏ تحسنوا في عبادة الخالق بأن يعبد العبد ربه كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإنه يراه، وتحسنوا إلى المخلوقين بجميع طرق الإحسان، من نفع بمال، أو علم، أو جاه، أو غير ذلك‏.‏ ‏{‏وَتَتَّقُوا‏}‏ الله بفعل جميع المأمورات، وترك جميع المحظورات‏.‏ أو تحسنوا بفعل المأمور، وتتقوا بترك المحظور ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا‏}‏ قد أحاط به علما وخبرا، بظاهره وباطنه، فيحفظه لكم، ويجازيكم عليه أتم الجزاء‏.‏

‏[‏129‏]‏ ‏{‏وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا‏}

يخبر تعالى‏:‏ أن الأزواج لا يستطيعون وليس في قدرتهم العدل التام بين النساء، وذلك لأن العدل يستلزم وجود المحبة على السواء، والداعي على السواء، والميل في القلب إليهن على السواء، ثم العمل بمقتضى ذلك‏.‏ وهذا متعذر غير ممكن، فلذلك عفا الله عما لا يستطاع، ونهى عما هو ممكن بقوله‏:‏ ‏{‏فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ‏}‏ أي‏:‏ لا تميلوا ميلا كثيرًا بحيث لا تؤدون حقوقهن الواجبة، بل افعلوا ما هو باستطاعتكم من العدل‏.‏

فالنفقة والكسوة والقسم ونحوها عليكم أن تعدلوا بينهن فيها، بخلاف الحب والوطء ونحو ذلك، فإن الزوجة إذا ترك زوجها ما يجب لها، صارت كالمعلقة التي لا زوج لها فتستريح وتستعد للتزوج، ولا ذات زوج يقوم بحقوقها‏.‏

‏{‏وَإِنْ تُصْلِحُوا‏}‏ ما بينكم وبين زوجاتكم، بإجبار أنفسكم على فعل ما لا تهواه النفس، احتسابا وقياما بحق الزوجة، وتصلحوا أيضًا فيما بينكم وبين الناس، وتصلحوا أيضًا بين الناس فيما تنازعوا فيه، وهذا يستلزم الحث على كل طريق يوصل إلى الصلح مطلقا كما تقدم‏.‏

‏{‏وَتَتَّقُوا‏}‏ الله بفعل المأمور وترك المحظور، والصبر على المقدور‏.‏ ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ يغفر ما صدر منكم من الذنوب والتقصير في الحق الواجب، ويرحمكم كما عطفتم على أزواجكم ورحمتموهن‏.‏

‏[‏130‏]‏ ‏{‏وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا‏}

هذه الحالة الثالثة بين الزوجين، إذا تعذر الاتفاق فإنه لا بأس بالفراق، فقال‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَتَفَرَّقَا‏}‏ أي‏:‏ بطلاق أو فسخ أو خلع أو غير ذلك ‏{‏يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا‏}‏ من الزوجين ‏{‏مِنْ سَعَتِهِ‏}‏ أي‏:‏ من فضله وإحسانه الواسع الشامل‏.‏ فيغني الزوج بزوجة خير له منها، ويغنيها من فضله وإن انقطع نصيبها من زوجها، فإن رزقها على المتكفل بأرزاق جميع الخلق، القائم بمصالحهم، ولعل الله يرزقها زوجا خيرا منه، ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا‏}‏ أي‏:‏ كثير الفضل واسع الرحمة، وصلت رحمته وإحسانه إلى حيث وصل إليه علمه‏.‏

ولكنه مع ذلك ‏{‏حَكِيمًا‏}‏ أي‏:‏ يعطي بحكمة، ويمنع لحكمة‏.‏ فإذا اقتضت حكمته منع بعض عباده من إحسانه، بسبب من العبد لا يستحق معه الإحسان، حرمه عدلا وحكمة‏.‏

‏[‏131، 132‏]‏ ‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا * وَلِلَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا‏}‏

يخبر تعالى عن عموم ملكه العظيم الواسع المستلزم تدبيره بجميع أنواع التدبير، وتصرفه بأنواع التصريف قدرا وشرعا، فتصرفه الشرعي أن وصى الأولين والآخرين أهل الكتب السابقة واللاحقة بالتقوى المتضمنة للأمر والنهي، وتشريع الأحكام، والمجازاة لمن قام بهذه الوصية بالثواب، والمعاقبة لمن أهملها وضيعها بأليم العذاب، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَكْفُرُوا‏}‏ بأن تتركوا تقوى الله، وتشركوا بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا، فإنكم لا تضرون بذلك إلا أنفسكم، ولا تضرون الله شيئًا ولا تنقصون ملكه، وله عبيد خير منكم وأعظم وأكثر، مطيعون له خاضعون لأمره‏.‏ ولهذا رتب على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا‏}‏ له الجود الكامل والإحسان الشامل الصادر من خزائن رحمته التي لا ينقصها الإنفاق ولا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، لو اجتمع أهل السموات وأهل الأرض أولهم وآخرهم، فسأل كل ‏[‏واحد‏]‏ منهم ما بلغت أمانيه ما نقص من ملكه شيئًا، ذلك بأنه جواد واجد ماجد، عطاؤه كلام وعذابه كلام، إنما أمره لشيء إذا أراد أن يقول له كن فيكون‏.‏

ومن تمام غناه أنه كامل الأوصاف، إذ لو كان فيه نقص بوجه من الوجوه، لكان فيه نوع افتقار إلى ذلك الكمال، بل له كل صفة كمال، ومن تلك الصفة كمالها، ومن تمام غناه أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، ولا شريكا في ملكه ولا ظهيرا، ولا معاونا له على شيء من تدابير ملكه‏.‏

ومن كمال غناه افتقار العالم العلوي والسفلي في جميع أحوالهم وشئونهم إليه وسؤالهم إياه جميع حوائجهم الدقيقة والجليلة، فقام تعالى بتلك المطالب والأسئلة وأغناهم وأقناهم، ومَنَّ عليهم بلطفه وهداهم‏.‏

وأما الحميد فهو من أسماء الله تعالى الجليلة الدال على أنه ‏[‏هو‏]‏ المستحق لكل حمد ومحبة وثناء وإكرام، وذلك لما اتصف به من صفات الحمد، التي هي صفة الجمال والجلال، ولما أنعم به على خلقه من النِّعم الجزال، فهو المحمود على كل حال‏.‏

وما أحسن اقتران هذين الاسمين الكريمين ‏{‏الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ‏}‏‏!‏‏!‏ فإنه غني محمود، فله كمال من غناه، وكمال من حمده، وكمال من اقتران أحدهما بالآخر‏.‏

ثم كرر إحاطة ملكه لما في السموات وما في الأرض، وأنه على كل شيء وكيل، أي‏:‏ عالم قائم بتدبير الأشياء على وجه الحكمة، فإن ذلك من تمام الوكالة، فإن الوكالة تستلزم العلم بما هو وكيل عليه، والقوة والقدرة على تنفيذه وتدبيره، وكون ذلك التدبير على وجه الحكمة والمصلحة، فما نقص من ذلك فهو لنقص بالوكيل، والله تعالى منزه عن كل نقص‏.‏

‏[‏133 ـ 134‏]‏ ‏{‏إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا * مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا‏}

أي‏:‏ هو الغني الحميد الذي له القدرة الكاملة والمشيئة النافذة فيكم ‏{‏إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ‏}‏ غيركم هم أطوع لله منكم وخير منكم، وفي هذا تهديد للناس على إقامتهم على كفرهم وإعراضهم عن ربهم، فإن الله لا يعبأ بهم شيئًا إن لم يطيعوه، ولكنه يمهل ويملي ولا يهمل‏.‏

ثم أخبر أن مَن كانت همته وإرادته دنية غير متجاوزة ثواب الدنيا، وليس له إرادة في الآخرة فإنه قد قصر سعيه ونظره، ومع ذلك فلا يحصل له من ثواب الدنيا سوى ما كتب الله له منها، فإنه تعالى هو المالك لكل شيء الذي عنده ثواب الدنيا والآخرة، فليطلبا منه ويستعان به عليهما، فإنه لا ينال ما عنده إلا بطاعته، ولا تدرك الأمور الدينية والدنيوية إلا بالاستعانة به، والافتقار إليه على الدوام‏.‏

وله الحكمة تعالى في توفيق من يوفقه، وخذلان من يخذله وفي عطائه ومنعه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا‏}

‏[‏135‏]‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا‏}

يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا ‏{‏قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ‏}‏ والقوَّام صيغة مبالغة، أي‏:‏ كونوا في كل أحوالكم قائمين بالقسط الذي هو العدل في حقوق الله وحقوق عباده، فالقسط في حقوق الله أن لا يستعان بنعمه على معصيته، بل تصرف في طاعته‏.‏

والقسط في حقوق الآدميين أن تؤدي جميع الحقوق التي عليك كما تطلب حقوقك‏.‏ فتؤدي النفقات الواجبة، والديون، وتعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، من الأخلاق والمكافأة وغير ذلك‏.‏

ومن أعظم أنواع القسط القسط في المقالات والقائلين، فلا يحكم لأحد القولين أو أحد المتنازعين لانتسابه أو ميله لأحدهما، بل يجعل وجهته العدل بينهما، ومن القسط أداء الشهادة التي عندك على أي وجه كان، حتى على الأحباب بل على النفس، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا‏}‏ أي‏:‏ فلا تراعوا الغني لغناه، ولا الفقير بزعمكم رحمة له، بل اشهدوا بالحق على من كان‏.‏

والقيام بالقسط من أعظم الأمور وأدل على دين القائم به، وورعه ومقامه في الإسلام، فيتعين على من نصح نفسه وأراد نجاتها أن يهتم له غاية الاهتمام، وأن يجعله نُصْب عينيه، ومحل إرادته، وأن يزيل عن نفسه كل مانع وعائق يعوقه عن إرادة القسط أو العمل به‏.‏

وأعظم عائق لذلك اتباع الهوى، ولهذا نبه تعالى على إزالة هذا المانع بقوله‏:‏ ‏{‏فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا‏}‏ أي‏:‏ فلا تتبعوا شهوات أنفسكم المعارضة للحق، فإنكم إن اتبعتموها عدلتم عن الصواب، ولم توفقوا للعدل، فإن الهوى إما أن يعمي بصيرة صاحبه حتى يرى الحق باطلا والباطل حقا، وإما أن يعرف الحق ويتركه لأجل هواه، فمن سلم من هوى نفسه وفق للحق وهدي إلى الصراط المستقيم‏.‏

ولما بيَّن أن الواجب القيام بالقسط نهى عن ما يضاد ذلك، وهو لي اللسان عن الحق في الشهادات وغيرها، وتحريف النطق عن الصواب المقصود من كل وجه، أو من بعض الوجوه، ويدخل في ذلك تحريف الشهادة وعدم تكميلها، أو تأويل الشاهد على أمر آخر، فإن هذا من اللي لأنه الانحراف عن الحق‏.‏ ‏{‏أَوْ تُعْرِضُوا‏}‏ أي‏:‏ تتركوا القسط المنوط بكم، كترك الشاهد لشهادته، وترك الحاكم لحكمه الذي يجب عليه القيام به‏.‏

{‏فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا‏}‏ أي‏:‏ محيط بما فعلتم، يعلم أعمالكم خفيها وجليها، وفي هذا تهديد شديد للذي يلوي أو يعرض‏.‏ ومن باب أولى وأحرى الذي يحكم بالباطل أو يشهد بالزور، لأنه أعظم جرما، لأن الأولين تركا الحق، وهذا ترك الحق وقام بالباطل‏.‏

‏[‏136‏]‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضلالًا بَعِيدًا‏}

اعلم أن الأمر إما أن يوجه إلى من لم يدخل في الشيء ولم يتصف بشيء منه، فهذا يكون أمرا له في الدخول فيه، وذلك كأمر من ليس بمؤمن بالإيمان، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ‏}‏ الآية‏.‏

وإما أن يوجه إلى من دخل في الشيء فهذا يكون أمره ليصحح ما وجد منه ويحصل ما لم يوجد، ومنه ما ذكره الله في هذه الآية من أمر المؤمنين بالإيمان، فإن ذلك يقتضي أمرهم بما يصحح إيمانهم من الإخلاص والصدق، وتجنب المفسدات والتوبة من جميع المنقصات‏.‏

ويقتضي أيضًا الأمر بما لم يوجد من المؤمن من علوم الإيمان وأعماله، فإنه كلما وصل إليه نص وفهم معناه واعتقده فإن ذلك من الإيمان المأمور به‏.‏

وكذلك سائر الأعمال الظاهرة والباطنة، كلها من الإيمان كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة، وأجمع عليه سلف الأمة‏.‏

ثم الاستمرار على ذلك والثبات عليه إلى الممات كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ وأمر هنا بالإيمان به وبرسوله، وبالقرآن وبالكتب المتقدمة، فهذا كله من الإيمان الواجب الذي لا يكون العبد مؤمنا إلا به، إجمالا فيما لم يصل إليه تفصيله وتفصيلا فيما علم من ذلك بالتفصيل، فمن آمن هذا الإيمان المأمور به، فقد اهتدى وأنجح‏.‏ ‏{‏وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضلالًا بَعِيدًا‏}‏ وأي ضلال أبعد من ضلال من ترك طريق الهدى المستقيم، وسلك الطريق الموصلة له إلى العذاب الأليم‏؟‏‏"‏

واعلم أن الكفر بشيء من هذه المذكورات كالكفر بجميعها، لتلازمها وامتناع وجود الإيمان ببعضها دون بعض، ثم قال‏:‏

‏[‏137‏]‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا‏}

أي‏:‏ من تكرر منه الكفر بعد الإيمان فاهتدى ثم ضل، وأبصر ثم عمي، وآمن ثم كفر واستمر على كفره وازداد منه، فإنه بعيد من التوفيق والهداية لأقوم الطريق، وبعيد من المغفرة لكونه أتى بأعظم مانع يمنعه من حصولها‏.‏ فإن كفره يكون عقوبة وطبعًا لا يزول كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏}‏ ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ودلت الآية‏:‏ أنهم إن لم يزدادوا كفرا بل رجعوا إلى الإيمان، وتركوا ما هم عليه من الكفران، فإن الله يغفر لهم، ولو تكررت منهم الردة‏.‏

وإذا كان هذا الحكم في الكفر فغيره من المعاصي التي دونه من باب أولى أن العبد لو تكررت منه ثم عاد إلى التوبة، عاد الله له بالمغفرة‏.‏

‏[‏138، 139‏]‏ ‏{‏بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا‏}

البشارة تستعمل في الخير، وتستعمل في الشر بقيد كما في هذه الآية‏.‏ يقول تعالى‏:‏ ‏{‏بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ‏}‏ أي‏:‏ الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، بأقبح بشارة وأسوئها، وهو العذاب الأليم، وذلك بسبب محبتهم الكفار وموالاتهم ونصرتهم، وتركهم لموالاة المؤمنين، فأي شيء حملهم على ذلك‏؟‏ أيبتغون عندهم العزة‏؟‏

وهذا هو الواقع من أحوال المنافقين، ساء ظنهم بالله وضعف يقينهم بنصر الله لعباده المؤمنين، ولحظوا بعض الأسباب التي عند الكافرين، وقصر نظرهم عمّا وراء ذلك، فاتخذوا الكافرين أولياء يتعززون بهم ويستنصرون‏.‏

والحال أن العزة لله جميعًا، فإن نواصي العباد بيده، ومشيئته نافذة فيهم‏.‏ وقد تكفل بنصر دينه وعباده المؤمنين، ولو تخلل ذلك بعض الامتحان لعباده المؤمنين، وإدالة العدو عليهم إدالة غير مستمرة، فإن العاقبة والاستقرار للمؤمنين، وفي هذه الآية الترهيب العظيم من موالاة الكافرين؛ وترك موالاة المؤمنين، وأن ذلك من صفات المنافقين، وأن الإيمان يقتضي محبة المؤمنين وموالاتهم، وبغض الكافرين وعداوتهم‏.‏

‏[‏140، 141‏]‏ ‏{‏وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا *الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا‏}

أي‏:‏ وقد بيَّن الله لكم فيما أنزل عليكم حكمه الشرعي عند حضور مجالس الكفر والمعاصي ‏{‏أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا‏}‏ أي‏:‏ يستهان بها‏.‏ وذلك أن الواجب على كل مكلف في آيات الله الإيمان بها وتعظيمها وإجلالها وتفخيمها، وهذا المقصود بإنزالها، وهو الذي خَلَق الله الخَلْق لأجله، فضد الإيمان الكفر بها، وضد تعظيمها الاستهزاء بها واحتقارها، ويدخل في ذلك مجادلة الكفار والمنافقين لإبطال آيات الله ونصر كفرهم‏.‏

وكذلك المبتدعون على اختلاف أنواعهم، فإن احتجاجهم على باطلهم يتضمن الاستهانة بآيات الله لأنها لا تدل إلا على حق، ولا تستلزم إلا صدقا، بل وكذلك يدخل فيه حضور مجالس المعاصي والفسوق التي يستهان فيها بأوامر الله ونواهيه، وتقتحم حدوده التي حدها لعباده ومنتهى هذا النهي عن القعود معهم ‏{‏حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏}‏ أي‏:‏ غير الكفر بآيات الله والاستهزاء بها‏.‏

‏{‏إِنَّكُمْ إِذًا‏}‏ أي‏:‏ إن قعدتم معهم في الحال المذكورة ‏{‏مِثْلُهُمْ‏}‏ لأنكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم، والراضي بالمعصية كالفاعل لها، والحاصل أن من حضر مجلسا يعصى الله به، فإنه يتعين عليه الإنكار عليهم مع القدرة، أو القيام مع عدمها‏.‏

{‏إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا‏}‏ كما اجتمعوا على الكفر والموالاة ولا ينفع الكافرين مجرد كونهم في الظاهر مع المؤمنين كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ‏}‏ إلى آخر الآيات‏.‏

ثم ذكر تحقيق موالاة المنافقين للكافرين ومعاداتهم للمؤمنين فقال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ينتظرون الحالة التي تصيرون عليها، وتنتهون إليها من خير أو شر، قد أعدوا لكل حالة جوابا بحسب نفاقهم‏.‏ ‏{‏فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ‏}‏ فيظهرون أنهم مع المؤمنين ظاهرا وباطنا ليسلموا من القدح والطعن عليهم، وليشركوهم في الغنيمة والفيء ولينتصروا بهم‏.‏

{‏وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ‏}‏ ولم يقل فتح؛ لأنه لا يحصل لهم فتح، يكون مبدأ لنصرتهم المستمرة، بل غاية ما يكون أن يكون لهم نصيب غير مستقر، حكمة من الله‏.‏ فإذا كان ذلك ‏{‏قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ نستولي عليكم ‏{‏وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ يتصنعون عندهم بكف أيديهم عنهم مع القدرة، ومنعهم من المؤمنين بجميع وجوه المنع في تفنيدهم وتزهيدهم في القتال، ومظاهرة الأعداء عليهم، وغير ذلك مما هو معروف منهم‏.‏

{‏فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ فيجازي المؤمنين ظاهرا وباطنا بالجنة، ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات‏.‏

{‏وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا‏}‏ أي‏:‏ تسلطا واستيلاء عليهم، بل لا تزال طائفة من المؤمنين على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، ولا يزال الله يحدث من أسباب النصر للمؤمنين، ودفعٍ لتسلط الكافرين، ما هو مشهود بالعيان‏.‏ حتى إن ‏[‏بعض‏]‏ المسلمين الذين تحكمهم الطوائف الكافرة، قد بقوا محترمين لا يتعرضون لأديانهم ولا يكونون مستصغرين عندهم، بل لهم العز التام من الله، فله الحمد أوّلًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا‏.‏